فصل: تفسير الآيات (116- 117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (111):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [111].
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} منصوب بـ: {رحيم} أو بـ اذكر واليوم يوم القيامة. ومعنى: {تُجَادِلُ} أي: تحاجّ وتسعى في خلاصها. لا يهمها إلا ذاتها وشأنها. ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي: من خير وشر: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} في ذلك. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (112- 113):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [112- 113].
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضاً بالجوع والخوف. ومعنى قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} أي: جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم. فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيدخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً، أو لقوم معينين، وهم أهل مكة. والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية؛ إذ لا يلزم وجود المشبه به. أو معينة من قرى الأولين. وقد ضمن {ضرب} معنى جعل و{مثلاً} مفعول ثان، و{قريةً} مفعول أول.
قال أبو السعود: وتأخير {قرية} مع كونها مفعولاً أول؛ لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها؛ إذ التأخير عن الكل مخلٍّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها. ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقباً لوروده، وتشوقاً إليه. لاسيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه. فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل. فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن. والمراد بالقرية: أهلها مجازاً، أو بتقدير مضاف. ومعنى كونها: {آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} أنه لا يزعجها خوف. والرغد الواسع. والأنعم جمع نعمة.
وفي قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة؛ لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] وهكذا قال ها هنا، و{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} أي: هنيئاً سهلاً: {مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ} أي: جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28- 29]، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها من كل مكان، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز- هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر- وقوله: {والْخَوْفِ} وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم. وامتن به عليهم في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عِمْرَان: 164] الآية. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً} [الطلاق: 10]، وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]، إلى قوله: {وَلاَ تَكْفُرُونِ} وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً، ورزقهم بعد العَيْلة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.
ثم بيَّن تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها، مفصلاً ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم. وهو مأذون بأكله كما قال:

.تفسير الآية رقم (114):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [114].
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} أي: من الحرث والأنعام: {حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تريدون عبادته فاستحلوها، فإن عبادته في تحليلها. واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده.
ثم ذكر ما حرمه عليهم، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، بقوله:

.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [115].
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} أي: ذبح على اسم غيره تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أجهد إلى ما حرم الله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أي: متعد قدر الضرورة وسد الرمق: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فلا يؤاخذه بذلك.
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية. فأغنى عن إعادته.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها، مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال:

.تفسير الآيات (116- 117):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [116- 117].
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أي: لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله. فـ: {الكذب} مفعول {تقولوا} وقوله: {هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} بدل من {الكذب} واللام صلة للقول، كما يقال: لا تقل للنبيذ إنه حلال، أي: في شأنه وحقه. فهي للاختصاص. وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان، لا حكم مصمم عليه. أو: {هَذا حَلال} مفعول {تقولوا} و{الكذب} مفعول {تصف} واللام في: {لِمَا تَصِفُ} تعليلية، وما مصدرية. ومعنى تصف: تذكر. وقوله: {لِّتَفْتَرُواْ} بدل من التعليل الأول. أي: لا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، أي: لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة. وليس بتكرار مع قوله: {لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} لأن هذا لإثبات الكذب مطلقاً، وذلك لإثبات الكذب على الله. فهو إشارة إلى أنهم، لتمرنهم على الكذب، اجترؤوا على الكذب على الله، فنسبوا ما حللوه وحوموه إليه. وعلى هذا الوجه- كون الكذب مفعول {تصف}- ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب؛ لجعله عين الكذب. ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها، فـ: {تصف} بمعنى توضح. فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب. فالتعريف في الكذب للجنس. كأنَّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته، وعليه قول المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ** فبات برامة يصف الكلالا

ونحوه: نهاره صائم. إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص؛ لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه. ووجهها يصف الجمال. لأن وجهها لما كان موصوفاً بالجمال الفائق، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه، الذي يعرف منه. حتى كأنه يصفه ويعرِّفه، كقوله:
أضحت يمنيك من جود مصورة ** لا بل يمنيك منها صور الجود

فهو من الإسناد المجازي. أو نقول: إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال. فهو استعارة مكنية. كأنه يقول: ما بي هو الجمال بعينه، ومثله ورد في كلام العرب والعجم. هذا زبدة ما في شروح الكشاف.
وما في الآية أبلغ من المثال المذكور، لما سمعت. أفاده في العناية. واللام في: {لِّتَفْتَرُواْ} لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية؛ إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا، بل لأغراض آخر يترتب عليها ما ذكر. وجوَّز كونها تعليلية، وقصدهم لذلك غير بعيد. وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} الآية. وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد له لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب. وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئاً مما حرم الله. أو حرَّم شيئاً مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: فرأت هذه الآية في سورة النحل، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قال في فتح البيان: صدق رحمه الله. فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقع كثيراً من المُؤْثِرَين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل يقول: إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا. فيقول الله عز وجل: كذبت، أو يقول: إن الله حرَّم كذا وأحلَّ كذا: فيقول الله له: كذبت.
قال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية، وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه، ويقال في المسائل الاجتهادية: إني أكره كذا وكذا، ونحو ذلك.
ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم الخ، بيَّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضاً شيء مما حرمه المشركون، تحقيقاً لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة، فقال سبحانه:

.تفسير الآيات (118- 119):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [118- 119].
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود: {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي: في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] الآية {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أي: فيما حرمنا عليهم: {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: فاستحقوا ذلك. كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء: 160]. وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا، فتذكر. قالوا: في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم. فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلا ما فيه مضرة لها. وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه، عقوبة لهم بالمنع، كاليهود.
ثم بيَّن تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله:
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} أي: العمل فيما بينهم وبين ربهم: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: التوبة: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد، ورفض الوثنية، وتبرئة لمقامه، مما كانوا يفترون عليه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (120- 121):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [120- 121].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: إماماً يقتدى به، كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]. أو كان وحده أمة من الأمم؛ لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره: {قَانِتاً لِلّهِ} أي: خاشعاً مطيعاً له، قائماً بما أمره: {حَنِيفاً} أي: مائلاً عن كل دين باطل إلى الدين الحق: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ} أي: قائماً بشكر نعم الله عليه، مستعملاً لها على الوجه الذي ينبغي، كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به: {اجْتَبَاهُ} أي: اختاره واصطفاه للنبوة: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو عبادة الله وحده لا شريك له، على شرع مرضي.

.تفسير الآيات (122- 123):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [122- 123].
{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} أي: من الذكر الجميل، كما قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50]، ومن الصلاة والسلام عليه، كما قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ} [الصافات: 108- 109]، ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ} أي: في عالم الأرواح: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: المتمكنين في مقام الاستقامة، بإيفاء كل ذي حق حقه، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين، شرفناه وكرمناه بأمرنا، بإتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع. كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق. قاله القاشانِيِّ.
وفي الإكليل: استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان، وما كان من شرعه، ولم يرد به ناسخ.
لطيفة:
قال الزمخشري: في: {ثُمَّ} هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة، وأجلِّ ما أولي من النعمة، إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
قال الناصر: وإنما تفيد ذلك: {ثم} لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان. ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة، بحيث يكون المعطوف على رتبته أشمخ محلاً مما عطف عليه. فكأنه بعد أن عدَّد مناقب الخليل عليه السلام، قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً، وأرفع رتبةً، وأبعد رفعةً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي، الذي هو سيد البشر، متبع لملة إبراهيم، مأمور بإتباعه بالوحي، متلوُّاً أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعاً. لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر، على ما مهدناه. وقوله تعالى: